فصل: من مات في هذه السنة من الأعيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.من مات في هذه السنة من الأعيان:

مات الإمام الألمعي والذكي اللوذعي من عجنت طينته بماء المعارف وتآخت طبيعته مع العوارف العمدة العلامة والنحرير الفهامة فريد عصره ووحيد دهره الشيخ محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري وهو أحد الإخوة الثلاثة وأصغرهم ويعرف هو بالصغير ولد سنة إحدى وخمسين ومائة وألف ونشأ في حجر والده في عفة وصون وعفاف وقرأ عليه وعلى أخيه الأكبر الشيخ أحمد ابن أحمد وعلى الشيخ خليل المغربي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم من فضلاء الوقت وأجازه الشيخ محمد الملوي بما في فهرسته وحضر دروس الشيخ عطية الأجهوري في الأصول والفقه وغير ذلك فلازمه وبه تخرج في الإلقاء وحضر الشيخ علي الصعيدي والبراوي وتلقى عن الشيخ الوالد حسن الجبرتي كثيراً من العلوم ولازم التردد عليه والأخذ منه مع الجماعة ومنفرداً وكان يحبه ويميل إليه ويقبل بكليته عليه وحج مع والده في سنة ثمان وستين وجاور معه فاجتمع بالشيخ السيد عبد الله الميرغني صاحب الطائف واقتبس من أنواره واجتنى من ثماره وكان آية في الفهم والذكاء والغوص والاقتدار على حل المشكلات وأقرأ الكتب وألقى الدروس بالأشرفية وأظهر التعفف والانجماع عن خلطة الناس والذهاب والترداد الى بيوت الأعيان والتزهد عما بأيديهم فأحبه الناس وصار له أتباع ومحبون وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده وإقبال الناس عليه ومدحتهم له وترغيبهم في زيادته وتزوج ببنت الخواجا الكريمي وسكن بدارها المجاورة لبيت والده بالأزبكية واتخذ له مكاناً خاصاً بمنزل والده يجلس فيه في أوقات وكل من حضر عند أبيه في حال انقطاعه من الأكابر أو من غيرهم للزيارة أو للتلقي يأمره بزيارة ابنه المترجم والتلقي عنه وطلبهم الدعاء منه ويحكي لهم عنه مزايا وكرامات ومكاشفات ومجاهدات وزهديات فازداد اعتقاد الناس فيه وعاشر العلماء والفضلاء من أهل عصره ومشايخه وقرنائه وتردد عليهم وترددوا عليه ويبيتون عنده ويطعمهم ويكرمهم ويتنزه معهم في أيام النيل مع الحشمة والكمال ومجانبة الأمور المخلة بالمروءة ولما مات أخوه الكبير الشيخ أحمد وقد كان تصدر بعد والده في إقراء الدروس أجمع الخاص والعام على تقدم المترجم في إقراء الدروس في الأزهر والمشهد الحسيني في رمضان فامتنع من ذلك وواظب على حالة انجماعه وطريقته وإملائه الدروس بالأشرفية وحج في سنة سبع وثمانين ومائة وألف وجاور سنة وعقد دروساً بالحرم وانتفع به الطلبة ثم عاد الى وطنه وزاد في الانجماع والتحجب عن الناس في أكثر الأوقات فعظمت رغبة الناس فيه ورد هداياهم مرة بعد أخرى وأظهر الغنى عنهم فازداد ميل الناس إليه وجبلت قلوبهم على حبه واعتقاده وتردد الأمراء وسعوا لزيارته أفواجاً وربما احتجب عن ملاقاتهم وقلد بعضهم بعضاً في السعي ولم يعهد عليه أنه دخل بيت أمير قط أو أكل من طعام أحد قط إلا بعض أشياخه المتقدمين وكانت شفاعته لا ترد عند الأمراء والأعيان مع الشكيمة والصدع بالأمر والمناصحة في وجوههم إذا أتوا إليه وازدادت شهرته وطار صيته ووفدت عليه الوفود من الحجاز والغرب والهند والشام والروم وقصدوا زيارته والتبرك به وحج أيضاً في سنة تسع وتسعين لما حصلت الفتنة بين أمراء مصر فسافر بأهله وعياله وقصد المجاورة فجاور سنة وأقرأ هناك دروساً واشترى كتباً نفيسة ثم عاد الى مصر واستمر على حالته في انجماعه وتحجبه عن الناس بل بالغ في ذلك ويقرئ ويملي الدروس بالأشرفية وأحياناً براويتهم بدرب شمس الدولة وأحياناً بمنزله بالأزبكية ولما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري وتولى مشيخة الأزهر الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي باتفاق الأمراء والمتصدرين من الفقهاء وهاجت حفائظ الشافعية ذهبوا إليه وطلبوه للمشيخة فأبى ذلك ووعدهم بالقيام لنصرتهم وتولية من يريدونه فاجتمعوا ببيت الشيخ البكري واختاروا الشيخ أحمد العروسي لذلك وأرسلوا الى الأمراء فلم يوافقوا على ذلك فركب المترجم بصحبة الجمع الى ضريح الإمام الشافعي ولم يزل حتى نقض ما أبرمه العلماء والأمراء ورد المشيخة الى الشافعية وتولى الشيخ أحمد العروسي وتم له الأمر كما تقدم ذلك في ترجمة العريشي ولما توفي الشيخ أحمد العروسي كان المترجم غائباً عن مصر في زيارة سيدي أحمد البدوي فأهمل الأمر حتى حضر وتولى الشيخ عبد الله الشرقاوي بإشارته ولم يزل وافر الحرمة معتقداً عند الخاص والعام حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها وتراكمت عليه الهموم والأمراض وحصل له اختلاط ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر القعدة سنة تاريخه بحارة برجوان وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة وبالجملة فكان من محاسن مصر والفريد في العصر ذهنه وقاد ونظمه مستجاد وكان رقيق الطبع لطيف الذات مترفهاً في مأكله وملبسه. معتقداً عند الخاص والعام حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها وتراكمت عليه الهموم والأمراض وحصل له اختلاط ولم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر القعدة سنة تاريخه بحارة برجوان وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند والده وأخيه بزاوية القادرية بدرب شمس الدولة وبالجملة فكان من محاسن مصر والفريد في العصر ذهنه وقاد ونظمه مستجاد وكان رقيق الطبع لطيف الذات مترفهاً في مأكله وملبسه.
ومات الأجل الأمثل العمدة الوجيه السيد عبد الفتاح بن أحمد ابن الحسن الجوهري أخو المترجم المذكور وهو أسن منه وأصغر من أخيه الشيخ أحمد ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف ونشأ في حجر أبيه وحضر الشيخ الملوي وبعض دروس أبيه وغيره ولم يكن معتنياً بالعلم ولم يلبس زي الفقهاء وكان يعاني التجارة ويشارك ويضارب ويحاسب ويكاتب فلما توفي أخوه الأكبر الشيخ أحمد وامتنع أخوه الأصغر الشيخ محمد من التصدر للإقراء في محله اتفق الحال على تقدم المترجم حفظاً للناموس وبقاء لصورة العلم الموروث فعند ذلك تزيا بزي الفقهاء ولبس التاج والفراجة الواسعة وأقبل على مطالعة العلم وخالط أهله وصار يطالع ويذاكر وأقرأ دروس الحديث بالمشهد الحسيني في رمضان مع قلة بضاعته وذلك بمعونة الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد الفرماوي فكان يطالع الدرس الذي يمليه من الغد ويتلقى عنه مناقشات الطلبة وثبت على ذلك حتى ثبتت المشيخة وتقررت العالمية كل ذلك مع معاناته التجارة وتردد الى الحرمين وأثرى واقتنى كتباً نفيسة وعروضاً وحشماً واشترى المماليك والعبيد والجواري والأملاك والالتزام ولم يزل حتى حصلت حوادث الفرنساوية وصادروه وأخذوا منه خمسة عشر ألف فرانسة وداخله من ذلك كرب وانفعال زائد فسافر الى بلدة جارية في التزامه يقال لها كوم النجار فأقام بها أشهراً ثم ذهب الى شيبين الكوم بلدة أقاربه وأقام بها الى أن مات في هذه السنة وذلك بعد وفاة أخيه الشيخ محمد بنحو خمسة أيام ودفن هناك رحمه الله تعالى.
ومات الإمام العلامة الثقة الهمام النحرير الذي ليس له في فضله نظير أبو محمد أحمد بن سلامة الشافعي المعروف بأبي سلامة اشتغل بالعلم وحضر العلوم النقلية والنحوية والمنطقية وتفقه على كثير من علماء الطبقة الأولى كالشيخ علي قايتباي والحفني والبراوي والملوي وغيرهم وتبحر في الأصول والفروع وكان مستحضراً للفروع الفقهية والمسائل الغامضة في المذاهب الأربعة ويغوص ذهنه وقياسه في الأصول الغريبة ومطالعة كتب الأصول القديمة التي أهملها المتأخرون وكان الفضلاء يرجعون في ذلك إليه ويعتمدون قوله ويعولون في الدقائق عليه إلا أن الدهر لم يصافه على عادته وعاش في خمول وضيق عيش وخشونة ملبس وفقد رفاهية بحيث أن من يراه لا يعرفه لرثاثة ثيابه وكان مهذباً حسن المعاشرة جميل الخلق والنادرة مطبوعاً فيه صلاح وتواضع ونزل مؤقتاً في مسجد عبد الرحمن كتخدا الذي أنشأه تجاه باب الفتوح بمعلوم قدره ثمانية أنصاف يتعيش بها مع ما يرد عليه من بعض الفقهاء والعامة الذين يحتاجون إليه في مراجعة المسائل والفتاوى فلما خرب المسجد المذكور في حادثة الفرنسيس وجهات أوقافه انقطع عنه ذلك المعلوم وكان ذا عائلة ومع ذلك لا يسأل شيئاً ولا يظهر فاقة توفي يوم الأحد حادي عشرين جمادى الآخرة من السنة عن خمسة وسبعين سنة تقريباً رحمه الله.
ومات الأمير مراد بك محمد مات بسهاج قادماً الى مصر باستدعاء الفرنسيس ودفن بها عند الشيخ العارف وكان موته رابع شهر الحجة كما تقدم وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب ومحمد بك مملوك علي بك وعلي بك مملوك ابراهيم كتخدا القازدغلي اشترى محمد بك مراد بك المذكور في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وذلك في اليوم الذي قتل فيه صالح بك الكبير فأقام في الرق أياماً قليلة أعتقه وأمره وأنعم عليه بالإقطاعات الجليلة وقدمه على أقرانه وتزوج بالست فاطمة زوجة الأمير صالح بك وسكن باره العظيمة بخط الكبش.
ولما مات علي بك تزوج بسريته أيضاً وهي الست نفيسة الشهيرة الذكر بالخير ولما انفرد محمد بك بإمارة مصر كان هو وابراهيم بك أكبر أمرائه المشار إليهما دون غيرهما فلما سافر محمد بك الى الديار الشامية محارباً للظاهر عم أقام عوضه في إمارة مصر ابراهيم بك وأخذ صحبته مراد بك وباقي أمرائه فلما مات محمد بك بعكا اجتمع أمراؤه على رأي مماليكه في رئاسة مراد بك فتقدم وقدمه عليهم وحملوا جثة سيدهم وحضروا بأجمعهم الى مصر فاتفق رأي الجميع على إمارة من استخلفه سيدهم وقدمه دون غيره وهو ابراهيم بك ورضي الجميع بتقدمه ورياسته لوفور عقله وسكون جأشه فاستقر بمشيخة مصر ورياستها ونائب نوابها ووزرائها وعكف مراد بك على لذاته وشهواته وقضى أكثر زمانه خارج المدينة مرة بقصره الذي أنشأه بالروضة وأخرى بجزيرة الذهب وأخرى بقصر قايماز جهة العادلية كل ذلك مع مشاركته لابراهيم بك في الأحكام والنقض والإبرام والإيراد والإصدار ومقاسمة الأموال والدواوين وتقليد مماليكه وأتباعه الولايات والمناصب وأخذ في بذل الأموال وإنفاقها على أمرائه وأتباعه فانضم إليه بعض أمراء علي بك وغيره ممن مات أسيادهم كعلي بك المعروف بالملط وسليمان بك الشابوري وعبد الرحمن بك عثمان فأكرمهم وواساهم ورخص لمماليكه في هفواتهم وسامحهم في زلاتهم وحظي عنده كل جريء غشوم عسوف ذميم ظلوم فانقلبت أوضاعهم وتبدلت طباعهم وشرهت نفوسهم وعلت رؤوسهم فتناظروا وتفاخروا وطمعوا في أستاذهم وشمخت آنافهم عليه وأغاروا حتى على ما في يده واشتهر بالكرم والعطاء فقصده الراغبون وامتدحه الشعراء والغاوون وأخذا الشيء من غير حقه وأعطاه لغير مستحقه.
ثم لما ضاف عليه المسلك ورأى أن رضا العالم غاية لا تدرك أخذ يتحجب عن الناس فعظم فيه الهاجس والوسواس وكان يغلب على طبعه الخوف والجبن مع التهور والطيش والتورط في الإقدام مع عدم الشجاعة ولم يعهد عليه أنه انتصر في حرب باشرها أبداً على ما فيه من الادعاء والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم والجور.
ولما قدم حسن باشا الى مصر وخرج المترجم مع خشداشينه وعشيرته هاربين الى الصعيد حتى انقضت أيام حسن باشا وإسمعيل بك ومن كان معه ورجعوا ثانياً بعد أربع سنين وشيء من الشهور من غير عقد ولا حرب تعاظم في نفسه جداً واختص بمساكن إسمعيل بك وجعل إقامته بقصر الجيزة وزاد في بنائه وتنميقه وبنى تحته رصيفاً محكماً وأنشأ بداخله بستاناً عظيماً نقل إليه أصناف النخيل والأشجار والكروم واستخلص غالب بلاد إقليم الجيزة لنفسه شراء ومعاوضة وغصباً وعمر أيضاً قصر جزيرة الذهب وجعل بها بستاناً عظيماً وكذلك قصر ترسا وبستان المجنون وصار يتنقل في تلك القصور والبساتين ويركب للصيد في غالب أوقاته واقتنى المواشي من الأبقار والجواميس الحلابة والأغنام المختلفة الأجناس فكان عنده بالجيزة من ذلك شيء كثير جداً وعمل له ترسخانة عظيمة وطلب صناع آلات الحرب من المدافع والقنابر والبنب والجلل والمكاحل واتخذ بها أيضاً معامل البارود خلاف المعامل التي في البلد وأخذ جميع الحدادين والسباكين والنجارين فجمع الحديد المجلوب والرصاص والفحم والحطب حتى شحت جميع هذه الأدوات لكونه كان يأخذ كل ما وجده منها وكذلك حطب القرطم والترمس والذرة لحرق قمام الجير والجبس للعمارة وأوقف الأعوان في كل جهة يحجزون المراكب التي تأتي من البلاد بالأحطاب يأخذونها ويجمعونها للطلب ويبيعون لأنفسهم ما أحبوا ويأخذون الجعالات على ما يسمحون به أو يطلقونه لأربابه بالوسائط والشفاعات وأحضر أناساً من القليونجية ونصارى الأروام وصناع المراكب فأنشأوا له عدة حربية وغلايين وجعلوا بها مدافع وآلات حرب على هيئة مراكب الروم صرف عليها أموالاً عظيمة ورتب بها عساكر وبحرية وأدر عليهم الجماكي والأرزاق الكثيرة وجعل عليهم رئيساً كبيراً رجلاً نصرانياً وهو الذي يقال له نقولا بنى له داراً عظيمة بالجيزة وأخرى بمصر وله عزوة وأتباع من نصارى الأروام المرتبين عسكراً وكان نقولا المذكور يركب الخيل ويلبس الملابس الفاخرة ويمشي في شوارع مصر راكباً وأمامه وخلفه قواسة يوسعون له الطريق في مروره على هيئة ركوب الأمراء كل ذلك خطرات من وساوسه لا يدري أحد لأي شيء هذا الاهتمام ولأي حاجة إنفاق هذا المال في الخشب والحديد وإعطاؤه لنصارى الأروام واختلفت آراء الناس في ذلك من قائل إن ذلك خوفاً من خشداشينه وقائل من مخافة العثمانية كما تقدم في قضية حسن باشا والبعض يظن خلاف ذلك وليس غير الوهم والتخيل الفاسد والخوف شيء وبقيت آلات الحرب جميعها والبارود بحواصله والجلل والبنبات حتى أخذ جميعه الفرنسيس فيقال إنه كان بحواصل الترسخانة من جنس الجلل أحد عشر ألف جلة كذا نقل عن معلم الترسخانة أخذ جميع ذلك الفرنسيس يوم استيلائهم على الجيزة والقصر.
ومما اتفق أنه وقعت مشاجرة في بعض نصارى الأروام القليونجية وبعض السوقة بمصر القديمة، فتعصب النصارى على أهل البلد وحاربوهم وقتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً، وانتهت الشكوى الى الأمير، فطلب كبيرهم فعصى عليه وامتنع من مقابلته وعمر مدافع المراكب ووجهها جهة قصره، فلم يسعه إلا التغافل وراحت على من راح، واستوزر رجلاً بربرياً وهو المسمى بابراهيم كتخدا السناري وجعله كتخداه ومشيره، وبلغ من العظمة ونفوذ الكلمة بإقليم مصر ما لم يبلغه أعظم أمير بها، وبنى له داراً بالناصرية واقتنى المماليك الحسان والسراري البيض والحبوش والخدم، وتعلم اللغة التركية والأوضاع الشيطانية واختص ذلك السناري أيضاً ببعض رعاع الناس وجعله متخدا يأتمر بأمره ويتوصل به أعاظم الناس في قضاء أشغالهم، ولما حسن لمراد بك الإقامة بالجيزة واختار السكن بها وزين له شيطانه العزلة عن خشداشينه وأقرانه وترك لابراهيم بك أمر الأحكام والدواوين ومقتضيات نواب السلطنة العثمانية مع كونه لا ينفذ أمراً دون رأيه ومشورته، واحتجب هو عن الاجتماع بالناس بالكلية. حتى عن الأمراء الكبار من أقرانه، كان السفير بينه وبينهم ابراهيم كتخدا المذكور فكان هو عبارة عنه وربما نقض القضايا التي انبرم أمرها عند ابراهيم بك أو غيره بنفسه أو عن لسان مخدومه، وأقام المترجم على عزلته بالبر الغربي نحو الست سنوات متوالية لا يعدى الى البر الشرقي أبداً ولا يحضر الديوان ولا يتردد الى اأقران، وإذا حضر الباشا المولى على مصر ووصل الى بر انبابة ركب وسلم عليه مع الأمراء ورجع الى قصره فلا يراه بعد ذلك أبداً. وتعاظم في نفسه وتكبر على أقرانه وأبناء جنسه فتزاحمت على سدته الطلاب وتكالبت على جيفته الكلاب فانزوى من نبشهم وتوارى من نهشهم، فإذا بلغه قدوم من يختشيه أو وصول من يرتجيه وكان يستحي من رده أو يخشى عاقبة صده ركب في الحال وصعد الى الجبال وربما وصله الغريم على غفلة، فيجده قد شمع الفتلة، فإن صادفه واجتمع عليه أعطاه ما في يديه أو وعده بالخير أو وهبه ملك الغير فما يشعر الميسور إلا ولقمته قد اختطفتها النسور.
ثم أخذ يعبث بدواوين الأعشار والمكوسات والبهار فيحول عليهم الحوالات ويتابع لمماليكه ختم الوصولات فتجاذب هو وابراهيم بك ذلك الإيراد وتعارضت أوراقهما وخافا في المعتاد ثم اصطلحا على أن تكون له الدواوين البحرية ولقسيمه ما يرد من الأصناف الحجازية وما انضاف الى قلم البهار وحسب في دفاتر التجار فانفرد كل منهما بوظيفته وفعل بها من الإجحاف ما سطر في صحيفته فأحدث المترجم ديواناً خاصاً بنفر رشيد على الغلال التي تحمل الى بلاد الافرنج وسموه ديوان البدعة وأذن ببيع الغلال لمن يحملها الى بلاد الإفرنج أو غيرها وجعل على كل أردب ديناراً خلاف البراني والتزم بذلك رجل سراج من أعوانه الموصوفين بالجور وسكن برشيد وبقيت له بها وجاهة وكلمة نافذة فجمع من ذلك أموالاً وإيراداً عظيماً وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري مع ما أضيف الى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجاراتهم وبضاعاتهم من غير ثمن واقتدى به أمراؤه وتناظروا في ذلك وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته واستخرجته فطنته واختص بالسيد محمد كريم الإسكندري ورفع شأنه بين أقرانه فمهد له الأمور بالثغر به وأجرى أحكامه به وفتح له باب المصادرات والغرامات ودله على مخبآت الأمور وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الإفرنج حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيس وكان هو من أعظم الأسباب في تملك الفرنسيس للثغر كما ذكر ذلك في قتلته وذلك أنه لما خرجت مراكب الفرنساوية وعمارتهم لا يدري أحد لأي جهة يقصدون تبعهم طائفة الانكليز الى الإسكندرية فلم يجدوهم وكانوا ذهبوا أولاً الى جهة مالطة فوقف الانكليزية قبالة الإسكندرية وأرسلوا قاصدهم الى الثغر يسألون عن خبر الفرنساوية فردهم الكذور رداً عنيفاً فأخبروه الخبر على جليته وأنهم أخصامهم وعلموا بخروجهم فاقتفوا أثرهم ونريد منكم أن تعطونا الماء والزاد بثمنه ونقف لهم على ظهر البحر فلا نمكنهم من العبور الى ثغركم فلم يقبل منهم ولم يأذن في تزويدهم فذهبوا ليتزودوا من بعض الثغور فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان.
ومما سولت به نفس المترجم بإرشاد بعض الفقهاء عمارة جامع عمرو ابن العاص وهو الجامع العتيق وذلك أنه لما خرب هذا الجامع بخراب مدينة الفسطاط وبقيت تلالاً وكيماناً وخصوصاً ما قرب من ذلك الجامع ولم يبق بها بعض العمار إلا ما كان من الأماكن التي على ساحل النيل وخربت في دولة القزدغلية وأيام حسن باشا لما سكنتها عساكره ولم يبق بساحل النيل إلا بعض أماكن جهة دار النحاس وفم الخليج يسكنها أتباع الأمراء ونصارى المكوس وبها بعض مساجد صغار يصلي بها السواحلية والنواتية وسكان تلك الخطة من القهوجية والباعة والجامع العتيق لا يصل إليه أحد لبعده وحصوله بين الأتربة والكيمان وكان فيما أدركنا الناس يصلون به آخر جمعة في رمضان فتجتمع به الناس على سبيل التسلي من القاهرة ومصر وبولاق وبعض الأمراء أيضاً والأعيان ويجتمع بصحنه أرباب الملاهي من الحواة والقراداتية وأهل الملاعب والنساء الراقصات المعروفات بالغوازي فبطل ذلك أيضاً من نحو ثلاثين سنة لهدمه وخراب ما حوله وسقوط سقفه وأعمدته وميل شقته اليمنى بل وسقوطها بعد ذلك فحسن ببال المترجم هذه وتجديده بإرشاد بعض الفقهاء ليرقع به دينه الخلق فاهتم لذلك وقيد به نديمه الحاج قاسم المعروف بالمصلي فجعله مباشراً على عمارته وصرف عليه أموالاً عظيمة أخذها من غير حلها ووضعها في غير محلها وأقام أركانه وشيد بنيانه ونصب أعمدته وكمل زخرفته وبنى به منارتين وجدد جميع سقفه بالخشب النقي وبيضه جميعه فتم على أحسن ما يكون وفرشه بالحصر الفيومي وعلق به القناديل وحصلت به الجمعية آخر جمعة برمضان سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فحضر الأمراء والأعيان والمشايخ وأكابر الناس وعامتهم وبعد انقضاء الصلاة عقد له الشيخ عبد الله الشرقاوي مجلساً وأملى حديث من بنى لله مسجداً وآية إنما يعمر مساجد الله وعند فراغه ألبس فروة من السمور وكذلك الخطيب فلما حضرت الفرنساوية في العام القابل جرى عليه ما جرى على غيره من الهدم والتخريب وأخذ أخشابه حتى أصبح بلقعاً أشوه مما كان فيا ليتها لم تتصدق وبالجملة فمناقب المترجم لا تحصى وأوصافه لا تستقصى وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومن مماليكه وأتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم فلعل الهم يزول بزواله.
ومات الأمير حسن بك الجداوي مملوك علي بك وهو من خشداشين محمد بك أبي الذهب مات بغزة بالطاعون وكان من الشجعان الموصوفين والأبطال المعروفين ولما انفرد علي بك بمملكة مصر ولاه إمارة جدة فلذلك لقب بالجداوي وذلك سنة أربع وثمانين ومائة وألف وابتلي فيها بأمور ظهرت بها شجاعته وعرفت فروسيته ولذلك خير يطول شرحه ولما حصلت الوحشة بين إسمعيل بك والمحمديين كان المترجم ممن نافق معه وعضده هو وخشداشينه رضوان بك وعبد الرحمن بك وكانت لهم الغلبة ونما أمره عند ذلك وظهر شأنه بعد أن كان خمل ذكره وهو الذي تجاسر على قتل يوسف بك في بيته بين مماليكه وعزوته ثم خامر على إسمعيل بك وانقلب مع المحمديين عندما خرج لمحاربتهم بالصعيد فخادعوه وراسلوه وانضم إليهم بمن معه ورجعوا الى مصر وفر إسمعيل بك بمن معه الى الشام واستقر هو وخداشينه في مملكة مصر مشاركين لهم مظهرين عليهم الشمم طامعين في خلوص الأمر لهم متوقعين بهم الفرصة مع التهور الموجب لتحذر الآخرين منهم الى أن استعجلوا إشعال نار الحرب فجرى ما جرى بينهم من الحروب والمحاصرة بالمدينة وانجلت عن خذلانهم وهزيمتهم وظهور المحمديين عليهم وقتل بها عدة من أعيانهم ومواليهم ومن انضم إليهم وربما عوقب من لا جناية له كما سطر ذلك في محله وفر المترجم مع بعض من بقي من عشيرته الى القليونجية فقبض عليه وأتى به أتى مصر ففر الى بولاق بمفرده والتجأ الى بيت الشيخ الدمنهوري فأحاط به العساكر فنط من سطح الدار وخلص الى الزقاق وسيفه مشهور في يده فصادف جندياً فقتله وأخذ فرسه فركبه وفر والعساكر خلفه تريد أخذه وتتلاحق به من كل جهة وهو يراوغهم ويقاتلهم حتى خلص الى بيت ابراهيم بك فأمنه واتفقوا على إرساله الى جدة فلما أقلع به في القلزم أمر رئيس المركب أن يذهب به الى القصير وخوفه القتل إن لم يفعل فذهب به الى القصير فتوجه منها الى أسنا وعلمت به عشيرته وخشداشينه ومماليكه فتلاقوا به واستقر أمرهم بها بعد وقائع يطول شرحها فأقام نيفاً وعشر سنين حتى رجع إليهم إسمعيل بك بعد غيبته الطويلة وانضم إليهم واصطلح معهم الى أن كان ما كان من وصول حسن باشا الى الديار المصرية وإخراج المحمديين وإدخاله للمذكور مع إسمعيل بك ورضوان بك وأتباعهم وتأميرهم بمصر واستقرارهم بها بعد رجوع حسن باشا الى بلاده ووقوع الطاعون الذي مات به إسمعيل بك ورضوان بك وغيرهم من الأمراء فاستقل بمن بقي من الأمراء وفعل معهم من التهور والحمق والشر ما أوجب لهم بغض النعيم والحياة معه وخامر عليه من كان يأمن إليه فلم يسعه ومن معه إلا الفرار ورضي ذاك لنفسه بالذل والعار ودخلت المحمديون الى مصر المحمية واستقر هو كما كان بالجهة القبلية فأقام على ذلك سبع سنين وبعض أشهر الى أن وقعت حادثة الفرنسيس واستولوا على الإقليم المصري وحضرت العساكر بصحبة الوزير يوسف باشا ووقع ما وقع من الصلح ونقضه وانحصر المترجم مع من انحصر بالمدينة المصرلية والعثمانية فقاتل وجاهد وأبلى بلاء حسناً شهد له بالشجاعة والإقدام كل من العثمانية والفرنساوية والمصرلية فلما انفصل الأمر وخرجوا الى الجهة الشامية لم يزل محرصاً ومرابطاً ومجتهداً حتى مات بالطاعون في هذه السنة وفاز بالشهادتين وقدم على كريم يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم وأمراؤه الموجودون الآن عثمان بك المعروف بالحسيني وأحمد بك أمره الوزير عوضاً عن أستاذه.
ومات الأمير عثمان بك المعروف بطبل وهو من مماليك إسمعيل بك أمره في سنة اثنتين وتسعين ثم خرج مع سيده وتغرب معه في غيبته الطويلة فلما رجع الى مصر في أيام حسن باشا تولى إمارج الحج في سنة خمس ومائتين وألف وكان سيده يقدمه على أقرانه ويظن به النجاح ولما طعن وعلم أنه مفارق الدنيا أحضره وأوصاه وحذره من أعدائه وقال له إني حصنت لك مصر وسورتها وصيرتها بحيث تملكها بنت عمياء فلما مات سيده تشوق للإمارة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار فلم يرض كل منهما بالآخر وتخوفا من بعضهما فاتفق رأيهما على تأمير عثمان بك المذكور كبيراً عوضاً عن سيده وسكن داره وعقدوا الدواوين عنده فنزل عن إمارة الحج لحسن بك تابع حسن بك قصبة رضوان واشتغل هو بأمور الدولة ومشيخة مصر فلم يفلح وخامر مع أخصامه وأخصام سيده والتف عليهم سراً وصدق تمويهاتهم وخذل نفسه ودولته وذلك غيظاً من حسن بك كما سبقت إليه الإشارة وكل من حسن بك وعثمان بك الجداوي وعلي بك الدفتردار يتخوف نفاق صاحبه لتكرر ذلك منهما في الوقائع السابقة وانحراف طبع كل عن صداقة الآخر الباطنية ولم يخطر ببالهما بل ولا ببال أحد من المجانين فضلاً عن العقلاء ركون المشار إليه الى أعدائه وأعداء سيده العداوة الموروثة فكانا كلما شرعا في تدبير شيء من مكايد الحرب ثبطهما وأقعدهما وهما يظنان نصحه وقعتقدان خلوصه ومعرفته ولكونه تعلم سياسة الحروب من سيده لكثرة تجاربه وسياحته ولم يعلما أنه يمهد لنفسه طريقاً مع الأعداء الى أن كان ما كان من مساعدته لهم بالتغافل والتقاعد حتى تحولوا الى الجهة الشرقية وخص إليهم بمن انضم إليه من عشيرته فلم يسع الباقين إلا الهرب وأسلم هو نفسه لأعدائه فأظهروا له المحبة وولوه إمارة الحج حكم عهدهم بذلك وأن تكون له إمارة الحج مادام حياً فخرج في تلك السنة أميراً على الحج أعني سنة ست ومائتين وألف وكذلك سنة سبع ونهب الحج في تلك السنة وفر المترجم الى غزة فصودرت زوجاته واقتسمت أقطاعه ورجع بعد حين الى مصر وأهمل أمره وأقام بطالاً واستمر كآحاد الطائفة من الأجناد ويغدو ويروح إليهم ويرجو رفدهم الى أن حدثت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج الى الشام ولم يزل هناك حتى مات بالطاعون في السنة المذكورة وكان دائماً يقول عند تذكره الدولة والنعيم ذلك تقدير العزيز العليم.
ومات الأمير عثمان بك المعروف بالشرقاوي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب أيضاً الكبار وتأمر في أيامه وعرف بالشرقاوي لكونه تولى الشرقية ووقع منه ظلم وجبروت بعد موت أستاذه وصادر كثيراً من الناس في أموالهم ثم انكف عن ذلك وزعم أن ذلك كان بإغراء مقدمه فشهره وقتله ولم يزل في إمارته حتى مات في الشام بالطاعون.
ومات أيوب بك الكبير وهو أيضاً من مماليك محمد بك وكان من خيارهم يغلب عليه حب الخير والسكون ويدفع الحق لأربابه وتأمر على الحج وشكرت سيرته واقتنى كتباً نيسة واستكتب الكثير من المصاحف والكتب بالخطوط المنسوبة وكان لين الجانب مهذب النفس يحب أهل الفضائل ذا ثروة وعزوة وعفة لا يعرف إلا الجد ويجتنب الهزل ويلوم ويعترض على خشداشينه في أفعالهم ولا يعجبه سلوكهم ولا يهمل حقاً توجه عليه وإذا ساوم شيئاً وقال له البائع هذا بعشرة يقول له بل هو بخمسة مثلاً وهذا ثمنها حالاً وقد يكون ذلك رأس مالها أو بزيادة قليلة ويرضي البائع بذلك ويقبض الثمن في المجلس وهكذا كان شأنه وطريقته.
ومات الأمير مصطفى بك وهو أيضاً من مماليك محمد بك تولى الصعيد وإمارة الحج عدة مرار وكان فظاً غليظاً متمولاً بخيلاً شحيحاً في إمارته على الحج ترك زيارة المدينة لخوفه من العرب وشحه بعوائدهم وقلة اعتنائه بشعائر الدين وانتقد ذلك على المصريين من الدولة وغيرها وكان ذلك من أعظم ما اجترحه من القبائح.
ومات الأمير سليمان بك المعروف بالآغا توفي بأسيوط بالطاعون وهو أيضاً من مماليك محمد بك الكبير وهو أخو ابراهيم بك المعروف بالوالي صهر ابراهيم بك الكبير وهو الذي مات غريقاً في وقعة الفرنسيس الأولى بإنبابة مدبراً فاراً فسقط في البحر وغرق وكان هو وأخوه المترجم قبل تقلدهما الصنجقية أحدهما والي الشرطة والآخر أغات مستحفظان فلم يزالا يلقبان بذلك حتى ماتا وكان المترجم محباً لجمع المال وله أقطاع واسعة خصوصاً بجهة قبلي وفي آخر أمره استوطن أسيوط لأنها كانت في أقطاعه وبنى بها قصراً عظيماً وأنشأ بعض بساتين وسواقي واقتنى أبقاراً وأغناماً كثيرة ومما اتفق له أنه جز صوف الأغنام وكانت أكثر من عشرة آلاف ثم وزعه على الفلاحين وسخرهم في غزله بعد أن وزنه عليهم ثم وزعه على القزازين فنسجوه أكسية ثم جمع التجار وباعه عليهم بزيادة عن السعر الحاضر فبلغ ذلك مبلغاً عظيماً.
ومات الأمير قائد آغا وهو من مماليك محمد بك أيضاً وكان يلقب أيام كشوفيته بقائد نار لظلمه وتجبره وولي أغات مستحفظان في سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فأخاف العامة وكان يتنكر ويتزيا بأشكال مختلفة ويتجسس على الناس وذلك أيام خروج ابراهيم بك الى قبلي ووحشته من مراد بك وانفراد مراد بك بإمارة مصر فلما تصالحا ورجع ابراهيم بك رد الأغاوية لعلي بك فحنق المترجم لذلك وقلق قلقاً عظيماً وترامى على الأمراء وصار يقول إن لم يردوا لي منصبي قتلت علي آغا أو قتلت نفسي فلما حصل منه ذلك عزلوا علي آغا وقلدوا سليم آغا أمين البحرين أغاوية مستحفظان ولم يبلغ غرضه ولم ترض نفسه بالخمول وأكثر عنده من الأعوان والأتباع فيحضرون بين يديه الشكاوى والدعاوى ويضرب الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم ويركب وبين يديه العدة الوافرة من القواسة والخدم يحملون بين يديه الحراب والقرابين والبنادق وخلفه الكثير من الأجناد والمماليك واتخذ له جلساء وندماء يباسطونه ويضاحكونه ولم يزل كذلك حتى خرج مع عشيرته الى الصعيد عند حضور حسن باشا فاستولى على كثير من حصص الأقطاع فلما رجعوا في أواخر سنة خمس بعد المائتين سكن دار جوهر آغا دار السعادة سابقاً بالخرنقش وقد كان مات في الطاعون وتزوج سريته قهراً واستكثر من المماليك والجند وتاقت نفسه للإمارة وتشوف الى الصنجقية وسخط على زملائه والأمراء الذين لم يلبوا دعوته ولم يبلغوه أمنيته وصارت جلساؤه وندماؤه لا يخاطبونه إلا بالإمارة ويقولون له يا بك ويكره من يخاطبه بدون ذلك وكان له من الأولاد الذكور اثنا عشر ولداً لصلبه يركبون الخيول ماتوا في حياته وكان له أخ من أقبح خلق الله في الظلم اتخذ له أعواناً وأتباعاً وليس عنده ما يكفيهم فكان يخطف كل ما مر بخطته بباب الشعرية من قمح وتين وشعير وغير ذلك ولا يدفع له ثمناً هلك قبله بنحو ست سنين بناحية قبلي وأتوا بجيفته الى مصر مقرفصاً ودفن بمدفن أخيه بتربة المجاورين ومن جملة أفاعيله القبيحة أنه كان يجرد سيفه ويضرب رقاب الحمير ويزعم أنه يقطعها في ضربة واحدة ولم يزل المترجم أخوه على حالته حتى خرج من مصر عند مجيء الفرنسيس وعاد بصحبة عرضي العثملي ومات قاسم بك مع من مات من الأمراء والصناجق بالشام فقلده الوزير الصنجقية فيمن تقلد وأدرك أمنيته فأقام قليلاً وهلك فيمن هلك بالطاعون فكان كما قال القائل فكان كالمتمني أن يرى فلقاً من الصباح فلما آن رآه عمي.
ومات أيضاً حسن كاشف المعروف بجركس وهو أيضاً من مماليك محمد بك وإشراق عثمان بك الشرقاوي وكان من الفراعنة وهو الذي عمر الدار العظيمة بالناصرية وصرف عليها أموالاً عظيمة فما هو إلا أن تمم بناءها ولم يكمل بياضها حتى وصلت الفرنسيس فسكنها الفلكيون والمدبرون وأهل الحكمة والمهندسون فلذلك صينت من الخراب كما وقع بغيرها من الدور لكون عسكرهم لم يسكنوا بها وتقلد المذكور الصنجقية بالشام أيضاً ثم هلك بالطاعون.
ومات الأمير حسن كتخدا المعروف بالجربان بالشام أيضاً وأصله من مماليك حسن بك الأزبكاوي وكان ممتهناً في المماليك فسموه بالجربان لذلك فلما قتل أستاذه بقي هو لا يملك شيئاً فجلس بحانوت جهة الأزبكية يبيع فيها تنباكاً وصابوناً ثم سافر الى المنصورة فأقام بها مدة تحت قصر محمود جربجي ثم رجع الى مصر في أيام دولة علي بك وتنقلت به الأحوال فأنعم عليه علي بك بآمرية بناحية قبلي فلما حصلت الوحشة بين علي بك ومحمد بك وخرج محمد بك من مصر الى قبلي خرج إليه المترجم ولاقاه وقدم بين يديه ما كان عنده من الخيام واليرق والخيول وانضم إليه ولم يزل حتى تملك محمد بك واستوزر إسمعيل آغا الجلفي وكان يبغض المترجم لأمور بينهما فلم يزل حتى أوغر عليه صدر مخدومه وأدى به الحال الى الإقصاء والبعد الى أن انضم الي مراد بك وتقرب منه وكان مفوهاً ليناً مشاركاً قد حنكته الأيام والتجارب فجعله كتخداه ووزيره واشتهر ذكره وعمر داراً بناحية باب اللوق بالقرب من غيظ الطواشي وصار من الأعيان المعدودين وقصدته أرباب الحاجات واحتجب في غالب الأوقات واتحد به محمد آغا البارودي فقربه من مراد بك وبلغ الى ما بلغ معه وكان يعتري المترجم مرض شبيه بالصرع فينقطع به أياماً عن السعي والركوب ولم يزل حتى مات مع من مات بالشام.
ومات الأمير قاسم بك المعروف بالموسقو وكان من مماليك ابراهيم بك وكان لين الجانب قليل الأذى إلا أنه كان شيخاً لا يدفع حقاً توجه عليه ولما مات خشداشه حسن بك الطحطاوي تزوج بزوجته وشرع في بناء السبيل المجاور لبيته بحارة قوصون بالقرب من الداودية فما قرب إتمامه إلا وقد قدمت الفرنسيس لمصر فخربوه وشعثوا بنيانه وخرقوا حيطانه وأخذوا عواميده وبقي على حالته مثل ما فعلوه بدور تلك الخطة وغيرها ومات أيضاً المترجم بالشام.
ومات علي آغا كتخدا الجاويشية وهو من مماليك الدمياطي ونسب الى محمد بك وأخيه ابراهيم بك ورقاه واختص به ووالاه أغات مستحفظان في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف فلم يزل الى سنة ثمان وتسعين فخرج مع ابراهيم بك الى المنية عندما تغاضب مع مراد بك فلما تصالحها قلد الأغاوية كما كان فحنق قائد آغا وكان ما كان من عزله وولاية سليم آغا كما سبق الإلماع بذلك عند ذكر قائد آغا ثم تقلد كتخدا الجاويشيه في سنة ست ومائتين وألف ولم يزل متقلداً ذلك حتى خرج مع من خرج في حادثة الفرنسيس وكان ذا مال وثروة مع مزيد شح وبخل واشترى دار عبد الرحمن كتخدا القازدغلي العظيمة التي بحارة عابدين وسكنها وليس له من المآثر إلا السبيل والكتاب الذي أنشأه بجوار داره الأخرى بدرب الحجر وهو من أحسن المباني وقد حماه الله من تخريب الفرنسيس وهو باق الى يومنا هذا ببهجته ورونقه.
ومات الأمير يحيى كاشف الكبير وهو من مماليك ابراهيم بك الأقدمين وكان لطيف الطباع حسن الأوضاع وعنده ذوق وتودد عطاردياً يحسب الرسومات والنقوش والتصاوير والأشكال ودقائق الصناعات والكتب المشتملة على ذلك مثل كليلة ودمنة والنوادر والأمثال واهتم في بناء السبيل المجاور لداره بخطة عابدين فرسم شكله قبل الشروع فيه في قرطاس بمعونة الأسطا حسن الخياط ثم سافر الى الإسكندرية وأحضر ما يحتاجه من الرخام والأعمدة المرمر الكبيرة والصغيرة وأنواع الأخشاب وحفر أساسه وأحكم وضعه واستدعى الصناع والمرخمين فتأنقوا في صناعته ونقش رخامه على الرسم الذي رسمه لهم كل ذلك بالحفر بالآلات في الرخام وموهوه بالذهب فما هو إلا أن ارتفع بنيانه وتشيدت أركانه وظهر للعيان حسن قالبه وكاد يتم ما قصده من حسن مآربه حتى وقعت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج قبل إتمامه وبقي على حالته الى الآن ولما خرج سكن داره برطلمين واستخرج مخبأة بين داره والسبيل فيها ذخائره ومتاعه فأوصلها للفرنسيس.
ومات الأمير رشوان كاشف وهو من مماليك مراد بك وكان له أقطاع بالفيوم فكان معظم إقامته بها فاحتكر الورد وما يخرج من مائه والخل المتخذ من العنب والخيش واتجر في هذه البضائع بمراده واختياره وتحكم في الإقليم تحكم الملاك في أملاكهم وعبيدهم وذلك قوة واقتدار.
ومات الأمير سليم كاشف بأسيوط مطعوناً وهو من مماليك عثمان بك المعروف بالجرجاوي من البيوت القديمة وخشداش عبد الرحمن بك عثمان المتوفى في سنة خمس ومائتين وألف بالطاعون الذي مات به إسمعيل بك وخلافه وتزوج ابنته بعد موته وكان ملتزماً بحصة من أسيوط وشرق الناصري واستوطن بأسيوط وبنى بها داراً عظيمة وعدة دور صغار وأنشأ بها عدة بساتين وغرس بها وبشرق الناصري أشجاراً كثيرة وعمر عدة قناطر وحفر ترعاً وصنع جسوراً وأسبلة في مفاوز الطرق وأنشأ داراً بمصر بالمناخلية بسوق الأنماطيين واشترى داراً جليلة كانت لسليمان بك المعروف بأبي نبوت بحارة عابدين وعمرها وزخرفها وأنشأ بأسيوط جامعاً عظيماً ومكتباً فما هو إلا أن أكمل بنيانه حتى قدمت الفرنسيس فاتخذوه سجناً يسجنون به ثم لما قابل المذكور الفرنسيس وأمنوه أخذ في إصلاح ما تشعث من البناء وتقيم العمارة ولم يساعده الوقت إذ ذاك لقلة الأخشاب وآلات البناء فاشتغل بذلك على قدر طاقته فلما فرغ البناء وقارب التمام ولم يبق إلا اليسير وقع الطاعون بأسيوط فمات والمسجد باق على ما هو عليه الآن وهو من المباني العظيمة المزخرفة على هيئة مساجد مصر وكان المذكور ذا بأس وشدة وإقدام وشجاعة وتهور مشابه لحسن بك الجداوي في هذه الفعال وموائده مبسوطة وطعامه مبذول وداره بأسيوط مقصداً للوارد والقاصد والصادر من الأمراء وغيرهم وله إغداقات وصدقات وأنواع من البر ومحبة في العمارة وغراس الأشجار واقتناء الأنعام وكان متزوجاً بثلاث زوجات إحداهن ابنة سيده عثمان بك توفيت بعصمته والثانية ابنة خشداشه عبد الرحمن المذكور آنفاً والثالثة زوجة علي كاشف المعروف بجمال الدين وكان ذا بأس وله صولة وظلم وتجاوزو على سفك الدماء فبذلك خافته عرب الناحية وأهل القرى وقاتل العرب مراراً وقتل منهم الكثير وبسكناه بأسيوط كثرت عمارتها وأمنت طرقها براً وبحراً واستوطنها الكثير من الناس لحمايتها وعدم صولة أحد على أهلها وله مهاداة مع الأمراء المصرية وأرباب الحل والعقد بها والمتكلمين عندهم فيرسل إليهم الغلال والعبيد والجواري السود والطواشية وغير ذلك وله عدة مماليك بيض وسود أعتق كثيراً من جملتهم عزيرتا الأمير أحمد كاشف المعروف بالشعراوي رقيق حواشي الطبع مهذب الأخلاق ذو فروسية في ركوب الخيل ومحبة في العلماء واللطفاء وهو من جملة محاسن سيده.
ومات كل من الأمير باكير بك والأمير محمد بك تابع حسين بك كشكش كلاهما بالشام ومات غير هؤلاء ممن لم تحضرني أسماؤهم.